سورة الأنعام - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش، فقالوا: يا محمد ائتنا من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فانا نصدق بك فأبى الله أن يأتيهم بها فأعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك عليه، فنزلت هذه الآية، والمعنى، وإن كان كبر عليك إعراضهم عن الإيمان بك، وصحة القرآن، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فافعل.
فالجواب محذوف وحسن هذا الحذف لأنه معلوم في النفوس. والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر، ومنه نافقاء اليربوع لأن اليربوع يثقب الأرض إلى القعر، ثم يصعد من ذلك القعر إلى وجه الأرض من جانب آخر، فكأنه ينفق الأرض نفقاً، أي يجعل له منفذاً من جانب آخر. ومنه أيضاً سمي المنافق منافقاً لأنه يضمر غير ما يظهر كالنافقاء الذي يتخذه اليربوع وأما السلم فهو مشتق من السلامة، وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك، والمقصود من هذا الكلام أن يقطع الرسول طمعه عن إيمانهم، وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى} تقديره: ولو شاء الله هداهم لجمعهم على الهدى وحيثما جمعهم على الهدى، وجب أن يقال: إنه ما شاء هداهم، وذلك يدل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر بل يريد إبقاءه على الكفر، والذي يقرب هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إما أن تكون صالحة للإيمان، أو غير صالحة له، فإن لم تكن صالحة له فالقدرة على الكفر مستلزمة للكفر، وغير صالحة للإيمان، فخالق هذه القدرة يكون قد أراد هذا الكفر منه لا محالة، وأما إن كانت هذه القدرة، كما أنها صلحت للكفر فهي أيضاً صالحة للإيمان، فلما استوت نسبة القدرة إلى الطرفين امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر، إلا لداعية مرجحة، وحصول تلك الداعية ليس من العبد، وإلا وقع التسلسل، فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى، وثبت أن مجموع القدرة مع الداعية الحاصلة موجب للفعل، فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر، وغير مريد لذلك الإيمان. فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر بهذه الآية، ولا بيان أقوى من أن يتطابق البرهان مع ظاهر القرآن.
قالت المعتزلة: المراد ولو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لجمعهم عليه.
قال القاضي: والالجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه، وحينئذٍ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان. ومثاله: أن أحدنا لو حصل بحضرة السلطان وحضر هناك من حشمه الجمع العظيم، وهذا الرجل علم أنه لو هم بقتل ذلك السلطان لقتلوه في الحال، فإن هذا العلم يصير مانعاً له من قصد قتلك ذلك السلطان، ويكون ذلك سبباً لكونه ملجأ إلى ترك ذلك الفعل فكذا هاهنا.
إذا عرفت الالجاء فنقول: إنه تعالى إنما ترك فعل هذا الالجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم فيكون ما يقع منهم كأن لم يقع، وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا بما يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة إلى الثواب، وذلك لا يكون إلا اختياراً.
والجواب: أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على السوية أو حال حصول هذا الرجحان. والأول: تكليف ما لا يطاق، لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء، تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال، وإن كان الثاني: فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع، والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع، وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار، فسقط قولهم بالكلية. والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله تعالى في آخر الآية {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} نهي له عن هذه الحالة، وهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة كما أن قوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 48] لا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أطاعهم وقبل دينهم، والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسرك على تكذيبهم، ولا يجوز أن تجزع من إعراضهم عنك فإنك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل، والمقصود من تغليظ الخطاب التبعيد والزجر له عن مثل هذه الحالة. والله أعلم.


{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)}
اعلم أنه تعالى بيّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان ولا يتركون الكفر فقال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وإنما يستجيب من يسمع، كقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} [النمل: 80] قال علي بن عيسى: الفرق بين يستجيب ويجيب، أن يستجيب في قبوله لما دعيَ إليه، وليس كذلك يجيب لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل: أتوافق في هذا المذهب أم تخالف؟ فيقول المجيب: أخالف.
وأما قوله: {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} ففيه قولان: الأول: أنه مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة والمراد: أنه تعالى هو القادر على أن يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثم إليه يرجعون للجزاء، فكذلك هاهنا أنه تعالى هو القادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر عليه.
والقول الثاني: أن المعنى: وهؤلاء الموتى يعني الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استمعاهم، وقريء {يَرْجِعُونَ} بفتح الياء.
وأقول: لا شك أن الجسد الخالي عن الروح يظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات، وأصلح أحواله أن يدفن تحت التراب، وأيضاً الروح الخالية عن العقل يكون صاحبها مجنوناً يستوجب القيد والحبس والعقل بالنسبة إلى الروح كالروح بالنسبة إلى الجسد، وأيضاً العقل بدون معرفة الله تعالى وصفاته وطاعته كالضائع الباطل، فنسبة التوحيد والمعرفة إلى العقل كنسبة العقل إلى الروح، ونسبة الروح إلى الجسد فمعرفة الله ومحبته روح روح الروح فالنفس الخالية عن هذه المعرفة تكون بصفة الأموات، فلهذا السبب وصف الله تعالى أولئك الكفار المصرين بأنهم الموتى. والله أعلم.


{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)}
اعلم أن هذا النوع الرابع من شبهات منكري نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنهم قالوا: لو كان رسولاً من عند الله فهلا أنزل عليه آية قاهرة ومعجزة باهرة!
ويروى أن بعض الملحدة طعن فقال: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم قد أتى بآية معجزة لما صح أن يقول أولئك الكفار {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ} ولما قال: {إن الله قادِرٌ على أن يُنَزِّلَ آيةً}.
والجواب عنه: أن القرآن معجزة قاهرة وبينة باهرة، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم تحداهم به فعجزوا عن معارضته، وذلك يدل على كونه معجزاً.
بقي أن يقال: فإذا كان الأمر كذلك فكيف قالوا: {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ}.
فنقول: الجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: لعلّ القوم طعنوا في كون القرآن معجزاً على سبيل اللجاج والعناد، وقالوا: إنه من جنس الكتب، والكتاب لا يكون من جنس المعجزات، كما في التوراة والزبور والإنجيل، ولأجل هذه الشبهة طلبوا المعجزة.
والوجه الثاني: أنهم طلبوا معجزات قاهرة من جنس معجزات سائر الأنبياء مثل فلق البحر واظلال الجبل وإحياء الموتى.
والوجه الثالث: أنهم طلبوا مزيد الآيات والمعجزات على سبيل التعنت واللجاج مثل إنزال الملائكة وإسقاط السماء كسفاً وسائر ما حكاه عن الكافرين.
والوجه الرابع: أن يكون المراد ما حكاه الله تعالى عن بعضهم في قوله: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] فكل هذه الوجوه مما يحتملها لفظ الآية.
ثم إنه تعالى أجاب عن سؤالهم {قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً} يعني أنه تعالى قادر على إيجاد ما طلبتموه وتحصيل ما اقترحتموه {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} واختلفوا في تفسير هذه الكلمة على وجوه:
الوجه الأول: أن يكون المراد أنه تعالى لما أنزل آية باهرة ومعجزة قاهرة وهي القرآن كان طلب الزيادة جارياً مجرى التحكم والتعنت الباطل، والله سبحانه له الحكم والأمر فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، فإن فاعليته لا تكون إلا بحسب محض المشيئة على قول أهل السنة أو على وفق المصلحة على قول المعتزلة، وعلى التقديرين: فإنها لا تكون على وفق اقتراحات الناس ومطالباتهم، فإن شاء أجابهم إليها، وإن شاء لم يجبهم إليها.
والوجه الثاني: هو أنه لما ظهرت المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة الكافية لم يبق لهم عذر ولا علة، فبعد ذلك لو أجابهم الله تعالى في ذلك الاقتراح فلعلّهم يقترحون اقتراحاً ثانياً، وثالثاً، ورابعاً، وهكذا إلى ما لا غاية له، وذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة، فوجب في أول الأمر سد هذا الباب والاكتفاء بما سبق من المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة.
والوجه الثالث: أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من المعجزات القاهرة، فلو لم يؤمنوا عند ظهورها لاستحقوا عذاب الاستئصال، فاقتضت رحمة الله صونهم عن هذا البلاء فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه تعالى عليهم، وإن كان لا يعلمون كيفية هذه الرحمة، فلهذا المعنى قال: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
والوجه الرابع: أنه تعالى علم منهم أنهم إنما يطلبون هذه المعجزات لا لطلب الفائدة بل لأجل العناد والتعصب وعلم أنه تعالى لو أعطاهم مطلوبهم فهم لا يؤمنون، فلهذا السبب ما أعطاهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنه لا فائدة في ذلك، فالمراد من قوله: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} هو أن القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة، وحينئذ كان الله تعالى يعطيهم ذلك المطلوب على أكمل الوجوه. والله أعلم.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13